عرض مشاركة واحدة
قديم 20th April 2006, 07:17   #5
عطر المجالس
عضــــو نشيــط
 
تاريخ التسجيل: Oct 2003
المشاركات: 137
( إن الصعوبة ناشئة في أننا نقف موقفاً غامضاً من إيماننا؛ ومن العلاقة التي بين هذا الإيمان ونشاطنا!

( إننا نستطيع أن نتحدث ببلاغة عن التحرر والحرية، وعن حقوق الإنسان والحريات الأساسية؛ وعن الكرامة والقيمة الإنسانية للفرد 00 ولكن معظم حديثنا مشتق من فترة كان مجتمعنا فيها قائماً على "الفردية" 00 ونتيجة لذلك فليس لها أثر كبير عند أولئك الذين يعيشون في ظروف يكون معنى الفردية فيها هو الموت المبكر..

( ونستطيع كذلك أن نتحدث ببلاغة عن التقدم المادي الذي حققناه، وعن روائع الإنتاج الجماعي، وعدد السيارات وأجهزة الراديو والتليفزيون التي يمتلكها أفراد شعبنا.. ولكن المبالغة في وصف الماديات تعطي البعض فكرة بأننا قد أفلسنا من الناحية الروحية؛ وتجعل من البعض حاسدين لنا، وأميل إلى التمجيد الشيوعي (للجهود الجماعية) من أجل تنمية الحياة المادية للمجتمع! ) ..

( إننا لا نستطيع أن نكافح الشيوعية السيوفييتية في العالم، وأن نحبط أساليبها في الخداع والإرهاب والعنف، ما لم يكن لدينا إيمان، واستعانة بالوسائل الروحية في مجتمعنا الحديث المعقد؛ والتي تحول نفسها إلى أعمال خالصة من الدناءة، وظروف الحياة الذليلة، التي لا يمكن أن تنمو فيها الروح! )

( لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء في أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية، دون أن نمارس الإلحاد والمادية.. إن ذلك يعتمد على الرغبة الاختيارية للفرد في قبول أو التخلي عن الالتزامات الاجتماعية تجاه الفرد الآخر..

( ونتيجة لذلك فإن كثيراً من قومنا قد فقدوا إيمانهم في مجتمع حر. وكأمة فقدنا كذلك إيماننا الديني وممارسة شعائرنا الدينية. رغم أننا ما زلنا متدينين! إننا نفرق بين الدين وممارسة الدين! ولم نعد نؤمن بأن الإيمان يتمشى مع الظروف الحديثة.. ومتى تحطمت الصلة بين الإيمان والعمل، فلن نستطيع بعد ذلك أن ننمي قوة روحية نستطيع نشرها في جميع أنحاء العالم )..

( إن علينا أن نغير كل ذلك. إننا نستطيع-بل يجب- أن نرفض كلية النظرية الماركسية القائلة: إن الأشياء المادية لها الأولوية، والروحية تابعة لها. إن العبودية والاستبداد لا يمكن ان يكونا صواباً، حتى ولو بصفة استثنائية. ويجب ألا نخشى وضع الإيمان في مرتبة الصدارة بالنسبة لحرية الإنسانية والتحرر، وان نتمسك بالرأي الديني القائل: إن الله قد خلق الإنسان لكي يكون اكثر من منتج مادي؛ وان غايته النهائية شيء آخر غير الأمن الجثماني. يجب أن نؤمن بأنه يجب تحرير الناس في كل مكان من التضييق الروحي والعقلي والاقتصادي المتزايد، بحجة أن ذلك سينمي الرفاهية الاقتصادية للمجتمع الذي ينتمون إليه! )..

( ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعاً حراً ليس معناه مجتمعاً يسعى كل فرد فيه لنفسه. بل انه مجتمع متناسق. والقيود المفروضة هي، قبل كل شيء، روابط الاخوة المنبعثة من الإيمان. فان الناس خلقوا لكي يعيشوا إخواناً في رعاية الله ) ..

ثم يختم هذا الفصل بقوله:

( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت، إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الآن!.

( وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لأمتنا. وبعثورهم عليها يستطيعون أن يساهموا بشكل حاسم في الإحباط السلمي للأساليب الشريرة، والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.

( إن كثيراً من الوعاظ والمعلمين يأسفون لأن المعرفة العلمية قد زادت قدرة الإنسان على الأذى إلى درجة كبيرة. ولا يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه.

( إن القوة المادية الكبيرة تكون خطرة في عصر المادية فقط؛ وليس في عصر روحي. والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لأنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة الروحية أن توضح الصلة بين العقيدة والعمل. ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلاً من محاولة وقف التقدم العلمي، او الرجوع به القهقري ) .

( لقد كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالاً استعرض فيه تهديد المبادئ الثورية وأعمال الشيوعية. وختمه بقول: إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها..

( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، او يحب بلده! ) ..

* * *

ولكن هذه الصيحة التي أرسلها مستر دالاس-كالصيحة التي أرسلها دكتور كاريل من قبل- لا تمكن تلبيتها بهذا السهولة! ولا بهذا التحدي الذي يضعه دالاس أمام كنائسهم ومنظماتهم والرأسماليين وكل فرد يخاف الله او يحب بلده!

إن المسألة اعمق من هذا بكثير. فالكنائس لم يعد لديها من النصرانية-منذ ما أفسدها بولس أولاً. وقسطنطين ثانياً. والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثاً- ما يصلح أساساً شاملاً للحياة الإنسانية.

وحتى البقية الباقية من التصور النصراني-هذه التي يتحدث عنها مستر دالاس- لم تعد الحضارة الأمريكية المادية تطيقها. هذه الحضارة التي قامت ابتداء على (الفردية) الجامحة، ممثلة في النظام الرأسمالي الربوي الاحتكاري إلى أبعد الحدود..

وما أظن مستر دالاس نفسه قد فكر-وهو يرسل هذه الصيحة في ساعة الخطر- في تطبيق بقية التصور النصراني تلك. فان أول ما تقتضيه: إلغاء النظام الربوي الذي تقوم هذه الحضارة عليه، والذي يساهم بالقسط الأول والأوفر في ويلات البشرية، وويلات الحضارة المادية. والذي تحرِّمه النصرانية، كما يحرمه كل دين سماوي وكل فطرة سليمة!

إنما أراد مستر دالاس صورة باهتة من النصرانية لا تتدخل في صميم النظام الاقتصادي. وفي الوقت ذاته تخدم أغراضه السياسية الأخرى في دفع غائلة الشيوعية!

وحتى لو كان جاداً في أعمال التصور الديني في صميم الحياة كلها.. فان هنالك هوة لا تعبر، ولا يقام عليها معبر بين التعاليم النصرانية الصحيحة، وبين الحياة الواقعية عنده. اشترك في حفرها وتعميقها خمسمائة عام من الصراع المرير!

وهو يكلف رجال الكنيسة عنده والزعماء الروحيين مالا قبل لهم به. حتى يطلب إليهم، بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للدين النصراني، ومن تاريخ مرير بين الكنيسة ورجالها والدين وأهله وبين ضمائر الناس وعقولهم، ومن فصام نكد قامت بعده كل جوانب الحياة والفكر والشعور على أساس العداء للدين كله.. أقول يكلفهم مالا قبل لهم به، وهو يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل، يصل بين الإيمان والعمل. وبين الفردية والجماعية. وبين الروح والمادة. وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم. وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح الإيماني.. منهج لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ويرفض القول: بأنه من غير الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية. كما يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية. او أن تكون العبودية والاستبداد وسيلة الإكثار من الإنتاج المادي. او أن يعتدي على الحرية العقلية والروحية والاقتصادية في سبيل هذا الإكثار.. منهج لا يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ولا يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!.. وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..

فأنى يجدون هذا المنهج في بقايا التصور المهلهل؛ وفي أنقاض التاريخ المرير، وفي الفجوة التي لا تعبر، والتي لا يقام عليها معبر، بين طبيعة الدين الذي عندهم-كما صاغته هذه الملابسات كلها- وبين طبيعة الحياة الإنسانية بصفة عامة، وطبيعة هذه الحضارة المادية بصفة خاصة؟!

إن الذي يملك استحداث هذا المنهج قوم آخرون.. والدين الذي يتضمن مثل هذا المنهج في اكمل صورة ليس هو ما يسمى عند قومه اليوم بالدين!

إن مستر دالاس يريد أن يجند (الدين) لحماية الأنظمة الغربية من الشيوعية.. ولكن الدين لا يملك أن يصنع شيئاً في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه لا يملك أن يصنع شيئاً في صورته الباهتة التي تراد له.. لا يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طرداً قبيحاً!

إن (دين الله) لا يصلح خادماً يلبس منطقة الخدم، ويقف بحضرة (أسياده)، ويوجهونه حيث يريدون! يطردونه من حضرتهم فينصرف، وهو يقبل الأرض بين أيديهم.. ثم يقف وراء الباب-في شارة الخدم- رهن الإشارة!.. ويستدعونه للخدمة، فيقبل الأرض بين أيديهم، وينحني قائلاً: لبيك يا مولاي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!

كلا! إن (دين الله) لا يرضى إلا أن يكون سيداً مهيمناً. قوياً متصرفاً. عزيزاً كريماً. حاكماً لا محكوماً. قائداً لا مقوداً 00 وهو لا يحمي الناس من الشيوعية ولا من غير الشيوعية إلا أن تكون حياتهم كلها رهن إشارته. يصرفها بجملتها، وينظمها من أطرافها، وينسقها وفق شريعته 00 حين يتحاكم إليه الناس في أمورهم كلها: صغيرها وكبيرها. ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلام:

" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً 00 "

[النساء: 65]

ويومئذ فقط يؤدي دوره كاملاً 00 دور السيد المدبر 00 لا دور الخادم الملبي00

ويومئذ فقط ينتهي ذلك الفصام النكد. الذي أنشأ كل هذا الشقاء المرير. وكل هذا الخطر الخطير00

ويومئذ فقط يجئ المخلص، الذي تتعالى الصيحات بصفاته وسماته! هذا المخلص المرتقب للناس أجمعين 00 هو هذا الدين 00




المخَلِّــص

"إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة 00 تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلص)، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه 00 وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على (هذا الدين) 00

جاءت هذه الفقرة في الفصل الأول من هذا الكتاب 00 والفصل الذي سلف (صيحات الخطر) يتضمن التفسير الكامل لهذه الفقرة في أقوال دكتور كاريل، وفي أقوال مستر دالاس على السواء! لولا أن كلا منهما –لأمر قد قدر- لا يتجه بدعائه للمخلص الحقيقي الذي عليه وحده تنطبق هذه الأوصاف؛ وفيه وحده تتحقق هذه السمات!

* * *

إن دكتور كاريل يطلب منهجاً للحياة غير (دين الصناعة) و (التكنولوجيا).

يريد منهجاً يعتبر (الإنسان مقياساً لكل شيء) ولا يجعله (غريباً في العالم الذي ابتدعه) 00 ولا ينهض على الجهل المطبق بخصائصه ومقوماته.

منهجاً ( لا يهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية) ولا ( ينهض على مبدأ الحد الأقصى من الإنتاج بأقل قدر من التكاليف 00 حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال).

منهجاً لا ينشئ بيئة (غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا). ولا يجعلنا ( ننحط أخلاقياً وعقلياً). ولا يكبت ويعطل ( نمو وجوه النشاط العاطفي والجمالي والديني فيخلق أشخاصاً في المرتبة الدنيا. ذوي عقول ضيقة غير صحيحة).

منهجاً لا يلغي شخصية الفرد من حسابه، ولكنه كذلك لا ينسى حاجة الفرد للحياة الجماعية. فلا (نربي ونعيش ونعمل في قطعان كبيرة أشبه بقطعان الأغنام!).

منهجاً لا يلغي شخصية الذكر وشخصية الأنثى. (فإهمال انعدام المساواة بين الجنسين أمر خطر جدّاً).

منهجاً لا يدع حياة بني الإنسان نهباً (لخيالات ماركس ولينين وفرويد) و (شهوات الناس وأهوائهم ونظرياتهم ورغباتهم).

منهجاً لا يعتدي على قوانين الفطرة. ولا يشجع على (ارتياد الأرض المحرمة). ولا يصطدم من الحقائق الحيوية للكينونة الإنسانية 00

وأخيراً 00 منهجاً لا يتخذ من فشل (المادية) سبباً للنكسة إلى (الروحية) السلبية التي عرفتها أوربا في نظام الرهبنة ولا إلى سيكولوجية فرويد المضللة!

ولكن دكتور كاريل يطلب هذا المنهج الذي هذه سماته عند (علم الإنسان) الذي يطالب بإنشائه على الرغم من تقريره أن في العقل البشري بطبيعته عجزاً عن العلم بالإنسان!

* * *

وما الذي يطلبه مستر دالاس كذلك؟

إنه يطلب منهجاً (لا يعطي الأولوية المطلقة لتنمية الحياة المادية للمجتمع مع إعطاء الروحية أهمية ثانوية، ولا يعتبر الإيمان أمراً ثانوياً يتعلق بالأفراد).

منهجاً (لا يقف موقفاً غامضاً من الإيمان وعلاقته بالنشاط الحيوي)00

منهجاً (لا يقوم على الفردية المطلقة - كما عرفتها التجربة الأمريكية - هذه الفردية التي يكون معناها في بعض الظروف: الموت المبكر)00

منهجاً (لا يخفق –بشكل يدعو إلى الرثاء ! – في أن يرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية).

منهجاً (لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ولا يحطم الصلة بين الإيمان والعمل. ولا يزعم أن الإيمان لا يتمشى مع الظروف الحديثة).

منهجاً (يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية ولا يجعل الروحية تابعة لها. ويرفض أن يعتبر العبودية والاستبداد صواباً - ولو في حالة استثنائية - ويرفض اعتبار الإنسان أداة إنتاج فحسب. ويرفض الرفاهية الاقتصادية على حساب الحرية الروحية والعقلية).

منهجاً يعيش الأفراد في المجتمع الذي يقوم عليه، إخواناً في الله. روابطهم الأخوية هي القيود التي تشدهم، والتي تحفظ مجتمعهم من الفردية الطاغية ومن الجماعية الطاغية كذلك.

منهجاً يظل الروح الإيماني فيه مهيمناً على المعرفة العلمية. فلا يطلب وقف تقدم المعرفة والعلم بحجة أنها بذاتها خطرة على الإيمان الديني!

وأخيراً 00 يريد منهجاً يوضح العلاقة بين العقيدة والعمل، وتتطور فيه (العبادة) حتى يصبح العمل إحدى صورها 000

ولكن مستر دالاس يطلب هذا المنهج عند رجال الكنيسة الأمريكية، وعند الزعماء الروحيين في بلده 000 على الرغم مما يعرفه من تاريخ الكنيسة الغربية، ومن (الفصام النكد) بينها وبين المجتمع، ورواسبه المريرة!

* * *

ولكن الذي ينبغي أن يكون واضحاً 00 أنه لا (علم الإنسان) يملك أن يستجيب لصيحة دكتور كاريل، ولا الكنيسة وآباؤها الروحيون يملكون أن يستجيبوا لصيحة مستر دالاس!

إن هذه الصفات التي يطلبانها في (المخلص) لا تتوافر في أحد إلا في (هذا الدين). وإن هذا المنهج الذي يصفانه لا يملكه إلا الإسلام. من بين سائر المناهج والمذاهب والنظريات التي يعرفها بنو الإنسان!

ودكتور كاريل لا يتجه إلى هذا (المخلص) 00 لأنه - على الرغم من سعة أفقه، ومن غزارة علمه - رجل أبيض 00 يتجه بتمجيده كله للجنس الأبيض! ويؤلف كتابه لإنقاذ الجنس الأبيض! ويوجه اهتمامه لإنقاذ الجنس الأبيض من الانحلال والبوار.

والإسلام ليس من صنع الرجل الأبيض، ومن ثم لا يمكن أن يتجه إليه العالم العالمي الكبير!

ومستر دالاس كذلك لا يتجه إلى هذا (المخلص) لأنه فوق أنه (رجل أبيض)، فإن له مع هذا الدين شأناً 00 إنه الرجل الذي قام بأكبر نصيب قام به سياسي عالمي في العصر الحديث في حرب الإسلام، وإقامة الأجهزة التي ترصد لهذا الدين في كل بقاع الأرض بلا استثناء، وتحاول أن تحل محله تصورات وقيماً أخرى من صنع الإنسان!

ولكن هذا الدين، هو وحده الذي يملك تلبية تلك الصرخات وهو وحده الذي تتحقق فيه هذه السمات. وهو وحده الذي توجد عنده هذه (الوصفة) اللازمة لشفاء بني الإنسان!

* * *

إن الإسلام منهج جديد للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها كذلك 00 منهج أصيل، مستقل الجذور 00 منهج شامل متكامل. وليس مجرد تعديل للحياة الراهنة وأوضاعها القائمة 00 إنه منهج للتصور والاعتقاد؛ كما أنه منهج للعمل والواقع 00 ومن ثم فهو - وحده - الكفء للاضطلاع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.

لقد أخطأ المجتمع البشري طريقه. لا من يوم أن اتجه إلى تنمية علوم الجماد وترك علوم الإنسان بدون نماء 00 ولا من يوم أن ترك الآلة تتحكم في حياته، وتكيفها هذا التكيف المناقض لطبيعة الإنسان 00 ولا من يوم أن ترك النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت رحمة المستغلين يوجهونها لغير صالح البشر، ولغير احتياجاتهم الحقيقية- كما يقرر دكتور كاريل 00

كلا! فهذه مراحل متأخرة في تاريخ الانحراف00

إنما أخطأ المجتمع طريقه يوم أن جعل تلك الملابسات النكدة التي صاحبت عصر الإحياء وعصر التنوير، وعصر النهضة الصناعية 00 تصرفه عن منهج الله كله - لا عن تصورات الكنيسة وحدها- وتوقع (الفصام النكد) في حياته، بين التصور الاعتقادي الإلهي، ونظام الحياة الاجتماعي 00

ولم يعد ذلك الترقيع الجزئي عن طريق العناية بعلوم الحياة وعلوم الإنسان –كما يظن دكتور كاريل- فالناس لا يوجه حياتهم ولا يغيرها أن ( يعلموا ) ولكن يوجه حياتهم ويغيرها أن ( يعتقدوا ) والإنسان هو الإنسان!

ولقد انتظرت من دكتور كاريل - وهو يذكر "ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" – أن يثب وثبة كاملة، فيخرج من قفصه الحديدي "العلمي"! ولكنه لم يستطع هذه الوثبة الكبرى وبقي داخل القفص، يهتف بصيحة الخطر الذي يراه يتهدد البشرية المسكينة الصائرة إلى البوار!

إن الحياة البشرية المهددة في حاجة إلى هذه الوثبة الكاملة، في حاجة إلى أن ترجع إلى فطرتها التي فطرها الله عليها. وهي لا يمكن أن ترجع إلى هذه الفطرة بمبادئ ونظريات أو وسائل تنبع من ذلك التصور الحضاري الذي يكمن فيه الخطر؛ والذي قام ابتداء على أصول معادية لينابيع لفطرة 00 لابد من تصور جديد جدة حقيقية كاملة؛ يغير قاعدة الحياة من الأساس ويردها إلى الفطرة؛ ويقيمها على أساس آخر يتفق مع طبيعة التكوين الإنساني المتكامل؛ ومع الحقيقة الكونية – كما هي في الواقع لا كما تبدو من خلال المناظير الملونة، المصنوعة في معامل الحضارة المعادية!

إن علمنا القليل المحدود عن الكائن البشري - أو جهلنا المطبق بهذا الكائن البشري- كما وصفه هذا العالم العالمي الكبير، لا يسمح إطلاقاً بأن نكون نحن - البشر- الذي نتولى وضع (التصميم) الأساسي ابتداءً لحياة هذا الكائن 00 ولو كان هذا مدى علمنا - أو مدى جهلنا - بجهاز مادي صغير، ما أمن صاحبه أن يتركه لنا لإصلاحه - بله تركيبه! - ولكننا بهذا الجهل – نتصدى لإقامة نظام (للإنسان) 00 أعز وأثمن ما في هذه الأرض جميعاً! ولا نبالي ما يصيبه من جراء (هذا النظام!).

لقد أدركنا الغرور، ونحن نرى العقل البشري يبدع في عالم المادة، ويأتي بما يشبه الخوارق! فوهمنا أن العقل الذي يبدع الطائرة والصاروخ؛ ويحطم الذرة وينشئ القنبلة الأيدروجينية؛ ويعرف القوانين الطبيعية ويستخدمها في هذا الإبداع 00 وهمنا أن هذا العقل جدير بأن نكل إليه كذلك وضع (نظام) الحياة البشرية 00 وقواعد التصور والاعتقاد، وأسس الأخلاق والسلوك 00 ناسين أنه حين يعمل في (عالم المادة) فإنه يعمل في عالم يمكن أن يعرفه، لأنه مجهز بإدراك قوانينه 00 أما حين يعمل في (عالم الإنسان) فهو يعمل في متاهة واسعة بالقياس إليه! هو غير مجهز ابتداء بإدراك حقيقتها الهائلة الغامضة.

ومن عجب أن الذي يقرر هذه الحقيقة هو العالم العالمي الكبير الذي يطلب هذه الحقيقة عند (علم الإنسان)!!

* * *

وفي مقابل ذلك الوهم الكبير، يوجد وهم آخر كبير!

إن بعض الناس يظن أن هيمنة المنهج الإيماني على الحياة، من شأنه طرد العلوم المادية ونتائجها الحضارية من الحياة!

وهو وهم ساذج - على الرغم من أنه وهم كبير! - بل وهم مضحك! ولكنه - مع الأسف - يرتكن في الغرب وفي التاريخ الحضاري له، على واقع تاريخي طويل. حتى ليحتاج من مستر دالاس إلى ذلك الفصل المطول في كتابه: (حرب أم سلام) 00 فصل: (حاجاتنا الروحية) الذي اقتطعنا منه في الفصل السابق تلك الصرخات؛ وتلك التحديات!

غير أن الأمر في المنهج الإلهي الصحيح ليس على هذا النحو 00 إن (الدين) ليس بديلاً من العلم والحضارة. ولا عدوّاً للعلم والحضارة. إنما هو إطار للعلم والحضارة، ومحور للعلم والحضارة، ومنهج للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.

والإسلام - بالذات - كان هو الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته. وكان الإيذان العام بانطلاق هذا العقل ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربه فيه. وكانت هذه إحدى الحقائق التي تضمنها التصور الإسلامي عن حقيقة علاقة الخلق بالخالق؛ ومركز الإنسان في هذا الكون، وحدود اختصاصه([1]) 00 ومن ثم ازدهرت في ظل الإسلام حضارة كاملة بكل مقوماتها الإبداعية التي كانت تتيحها لها الأدوات والوسائل في حينها -والأدوات والوسائل قابلة دائماً للتطور والترقي- والإسلام يدفع هذا النمو ويقوده، ولكنه يحفظه دائماً داخل إطار الفطرة؛ لا يصطدم بطبيعة الإنسان وخصائصه الثمينة، ولا يحطمها ويكبتها، كما يقرر دكتور كاريل عن الحضارة المعاصرة!

ولقد كان الإسلام هو الذي أنشأ - بطبيعة واقعية منهجه - المنهج التجريبي، الذي انتقل إلى أوربا من جامعات الأندلس؛ والذي أقام عليه (روجر بيكون) و (فرنسيس بيكون) - الذي يسمونه افتراء (أبا المنهج التجريبي) - منهجهما كما قرر ذلك بريفولت وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم([2]).

إن الإسلام يكل رسم (التصميم) الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك يكله إلى علم الله - سبحانه - بما أن الله هو الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع الإنسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض 00 وهو الذي يعلم - وحده - كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية 00 فهو- وحده - القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة؛ شاملاً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به 00 عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق) 00 وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري - كما أرادت الكنيسة ذات يوم- هذه الأداة العظيمة، التي وهبها الله للإنسان ليعمل بها ويبدع؛ لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى، ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل؛ ويهديها فلا تضل؛ ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.

وبهذا يظل (الإنسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع الإنسان والمادة. وبالتصور الذي يشعره بكرامته على الله؛ كما يشعره بعبوديته لله. وفي الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض 00

* * *

ومن هذا كله يتبين أن الإسلام - وحده - هو المنهج الذي يستصرخه مستر دالاس - ولكنه لا يتجه إليه!- المنهج الذي يملك أن يتقدم لتخليص البشرية من بربرية الحضارة الصناعية –كما يعبر دكتور كاريل - ومن مصيدة الشيوعية - كما يقول مستر دالاس- وأننا نحن أصحاب المنهج الإسلام - وحدنا - الذين نملك تلك الوثبة الكبرى!

إن هذه الحضارة الصناعية التي تحيط بالبشرية اليوم، تحطم أهم ما في كيان (الإنسان) وتحارب أرفع مقوماته الإنسانية، وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلات الرائعة - وإن كانت هذه التسهيلات قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته - كما يقرر العالم العالمي الكبير، في مواضع شتى من كتابه القيم 00

والإسلام - بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور الإنسان فيه، وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي- لن يعمد إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!

ولكن الإسلام سيعمد - ابتداء - إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها 00 سيمنحها قيمتها الحقيقية بلا مبالغة وبلا بخس كذلك! بحيث يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر عليها. لا أن تكون هي المسيطرة عليه، وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته ..
__________________
ارضاء الناس غايه لاتدرك
عطر المجالس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس